البيمارستان: «البيمارستان» — ومخففها «مارستان» كلمة فارسية معناها «المستشفى»، وهي مؤلَّفة من كلمة «بي» ومعناها: «بدون»، و«مار» ومعناها: «الحياة، أو الحيوية»، و«ستان» ومعناها مكان؛ فمعنى الكلمة كلها «مكان المرضى».
وقال الجوهري في الصِّحَاح:
- المارستان بيت المرضى، معرَّب. وقد أُطلقت في الأصل على كل مستشفًى، ثم خُصصت بمستشفى المجاذيب، وأول من عمل البيمارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك في سنة ٨٨، وجعل فيها الأطباء وأجرى عليهم الجرايات، وعمل دور الضيافة، وأمر بحبس المجذومين والعميان، وكانوا يودِعون في هذه البيمارستانات الأدوية والعقاقير والأكحال، ويجعلون فيها الأطباء والكحالين والجِرَاحيين والخدم وكل ما تحتاج إليه المشافي من عُدد وآلات، وربما جعلوا في بعضها خزائن الكتب وغرفًا وأواوين ومعاهد لتدريس الطب والصيدلة وما إليها، وربما ألحقوا مكان التدريس بجانب البيمارستان ليكون الطلاب في جو هادئ، وإذا ما أراد الأستاذ تدريسهم وإجراء التطبيق العملي نقلهم من المدرسة إلى البيمارستان أو من البيمارستان إلى المدرسة، وممن عمل ذلك الخليفة المستنصر العباسي؛ فإنه جعل في مدرسته المستنصرية العظمى معهدًا لتدريس الطب والصيدلة، وإلى جانبه شاد البيمارستان ليطبق الطلاب علومهم النظرية على الحالات المرضية في ذلك المستشفى.
وكذلك فعل الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي
- فإنه بنى البيمارستان الكبير المنصوري في القاهرة سنة ٦٨٢، وجعل فيه قبة ومدرسة وبيمارستانًا، وإن ذلك كله تم في أسرع مدة وهي أحد عشر شهرًا، وكان مقدار ذرعها عشرة آلاف وستمائة ذراع، وكان الشروع في البناء سنة ٦٨٣، ووقف عليها ما يقارب من ألف ألف درهم في كل سنة لمصاريف البيمارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام، وجعل مكانًا تفرق فيه الأدوية والأشربة، ومكانًا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء الدروس في الطب، وقرر في القبة خمسين مقرئًا يتناوبون قراءة القرآن ليلًا ونهارًا، ودرسًا للتفسير له مدرس ومعيدان وثلاثون طالبًا، ودرس حديث نبوي، وجعل بها خزانة كتب وستة خدام طواشية لا يزالون بها، ومتصدِّرًا لإقراء القرآن، ودروس في الفقه على المذاهب الأربعة، ورتب بمكتب الأيتام معلمَين يقرئان الأيتام القرآن الكريم.
- وقد مدحها الشرف البوصيري بقوله:
أنشات مدرسة ومارستانالتصحح الأديان والأبدانا
- وقال أيضًا:
- ومدرسة ودَّ الخورنق أنهلديها حظير والسدير غديرمدينة علم والمدارس حولهاقرًى أو نجوم بدرهنَّ منيرتبدت فأخفى الظاهرية نورهاوليس بظهر للنجوم ظهوربناها كأن النحل هندس شكلهولانت له كالشمع فيه صخور
ولما دخل صلاح الدين مصر أمر بفتح مارستان للمرضى.
تدريس الطب بالبيمارستان وفي مدارس خاصة
وكانت البيمارستان قسمين
أحدهما للرجال، والآخر للنساء، وفي كلا القسمين ما يحتاج إليه الأطباء أو المستخدمون من العدد والآلات والكتب، كما كان كلٌّ منهما مجهزًا بالالات المخصصة لمختلِف الأمراض والعلل والجراحات والجبائر، وما إلى ذلك، وكان إلى جانب هذه البيمارستانات أو داخلها في الغالب صيدليات ربما سمَّوْها «الشراب خاناه»، وفيها رئيس وموظفون، ويسمى هذا الرئيس «صيدليًّا» أو «صيدلانيًّا» أو «شاد الشراب خاناه».
وكان الأطباء في صدر الدولة يطببون — بعد أن يدرسوا الطب على شيوخه — حين يجدون في أنفسهم الكفاية ويأذن لهم أستاذوهم بذلك، ويظهر أنهم لما وجدوا بعض المتطفلين على هذه الصناعة يدسون أنفسهم في عداد الأطباء، رأَوْا ضرورة صيانة هذه الصنعة الحساسة فأوجدوا للرقابة عليهم رجالًا مخصوصين.
- ويقال إن الخليفة المقتدر بالله العباسي هو أول من فرض على من يريد انتحال هذه الصنعة أن يؤديَ امتحانًا حتى ينال إجازة التطبيب، قال سنان بن ثابت رئيس أطباء عصره وطبيب الخليفة المقتدر: لما كان في سنة ٣١٩ اتصل بالمقتدر أن غلطًا جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل؛ فأمر الخليفة أبا إبراهيم بن محمد بن أبي بطيحة المحتسب أن يمنع المتطببين من التصرف إلا مَن امتحنه سنان بن ثابت بن قرة، فصاروا إلى سنان وامتحنهم وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه، وبلغ عددهم في جانبَي بغداد ثمانمائة رجل ونيفًا وستين طبيبًا، سوى من استغنى عن امتحانه باشتهاره وتقدمه في صناعته، وسوى مَن كان في خدمة الخليفة. وصار النظام بعد ذلك أن من أتم دراسة الطب يتقدم إلى رئيس الأطباء لامتحانه وأخذه الإجازة في العراق أو الشام أو سائر الأقطار الإسلامية. يقول الدكتور أحمد عيسى: وكان طالب الإجازة يتقدم إلى رئيس الأطباء برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناته، وهذه الرسالة أشبه بما يسمى اليوم أطروحة thèse، وتكون هذه الرسالة له أو لأحد مشاهير الأطباء المتقدمين أو المعاصرين يكون قد أجاد دراستها فيمتحنه فيها ويسأله في كل ما يتعلق بما فيها من الفن، فإذا أحسن الإجابة أجازه الممتحن بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة، ومن محاسن الصدف أني عثرت في دشت قديم في خزانة كتب أستاذنا وصديقنا أحمد زكي باشا على صورتين لإجازتين في الطب من القرن السادس عشر، مُنحت إحداهما لفصاد والأخرى لجراح أنقلهما هنا لكي يعلم الباحث ما كان عليه الحال في تلك العصور.
- وقد بلغت المارستانات في الإسلام مبلغًا عظيمًا، أحصاه الدكتور أحمد عيسى في كتابه القيم. وقد تجاوز عدد المشهور فيها المائة بيمارستان، ولم يكد يخلو منها قطر من أقطار الإمبراطورية الإسلامية إذ ذاك.
كتاب: التربية والتعليم في الإسلام تأليف: محمد أسعد طلس
لتحميل الكتاب من الموقع الرسمي لمؤسسة هنداوي من هنا